فلسطينيو يافا يواجهون التطهير العرقي والديني المتواصل منذ النكبة

منذ أكثر من سنة، وبشكل منتظم وبدعوة اللجنة الشعبية للدفاع عن الأرض والمسكن، يقوم أهل يافا بوقفات احتجاجية ضد سياسة الطرد من منازلهم التي تتبعها شركة "عميدار" التابعة للمؤسسة الصهيونية. لقد خططت هذه الشركة لتهجير وتشريد 1400 فلسطيني في الآونة الأخيرة، لتسريع سياسة تهويد المدينة وإلغاء هويتها العربية. لذلك، ينظّم أهلها هذه الاحتجاجات تحت عنوان: "يافا مش للبيع" للفت نظر الفلسطينيين والعرب والأحرار في العالم حول مخططات العدو، خاصة وأن عدد الفلسطينيين في المدينة لم يتجاوز في العام 2021 الـ21 ألف فلسطيني مقابل 30 ألف مستوطن يهودي.
تأتي هذه الموجة الجديدة من التطهير العرقي والديني للمدينة من سكانها الفلسطينيين في ظل صعود اليمين الفاشي في كيان العدو والهجمة الاستيطانية التهويدية التي تطال أراضي الـ48 ومدنها كما تطال الضفة الغربية والقدس.
تمثل مدينة يافا عيّنة لما يحصل في المدن الفلسطينية التي يصنفها الصهاينة بمدن "مختلطة" (عكا، اللد، الرملة، حيفا)، التي تعاني من سياسة تطهير عرقي ممنهجة، وليس سياسة فصل عنصري، حيث أن هدف الصهاينة من عدوانهم على الفلسطينيين يرمي الى تهجيرهم من مدينتهم وأحيائهم، وطردهم من منازلهم، ليحلّ اليهود مكانهم، إن كانوا غربيين أم شرقيين، أوروبيين أم أثيوبيين، علمانيين أم متدينين، تطبيقا لسياسة تهويد فلسطين وتهويد مدنها وقراها وعاصمتها القدس.
بعد تهجير 95% من أهلها في العام 1948، زجّ المحتل الفلسطينيين الناجين من يافا وضواحيها في حي العجمي الذي أحاطه بسياج شائك لا يسمح لهم الخروج منه إلا بإذن من الحاكم العسكري. فتم إهمال هذا الحيّ، في حين دمّرت السلطات الصهيونية المحتلة أحياء كثيرة وأهملت أحياء أخرى، وتم استقدام اليها يهود من دول أوروبا الشرقية وافريقيا ليحلّوا مكان الفلسطينيين الذين أصبحوا لاجئين في الدول المجاورة.
ثم تم ربط مدينة يافا العريقة، في العام 1950، بمستوطنة تل ابيب التي بُنيت في بداية القرن الماضي على أنقاض سبع قرى فلسطينية، من أجل إنعاش المستوطنة الصهيونية الجديدة على حساب المدينة الفلسطينية العريقة. وبدلا من حماية التراث والحضارة في مدينة يافا المهدّدة من قبل المؤسسة الصهيونية، أدرجت منظمة اليونسكو، في العام 2003، مستوطنة تل أبيب ضمن التراث الذي يجب حمايته والمحافظة عليه، باعتباره تراث "عالمي"، كونه يمثل فن العمارة الأوروبي (الاستعماري)، في حين أغفلت هذه المنظمة الدولية عن حماية المدينة العريقة (يافا) التي همّشها كيان العدو، قبل أن يستيقظ ويبحث عن استثمار جمالها وموقعها وعماراتها، ويخترع لها تاريخا يهوديا بالتزامن مع صعود الهجمة النيوليبرالية العالمية في العقدين الآخرين من القرن الماضي.
تشير الدراسات بتحوّل مدينة يافا وتاريخها الحديث في ظل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الى أنها مرّت بتحولات عميقة تمثلت بثلاث مراحل على الأقل، تقود جميعها الى عملية إحلال عرقي، ديني وثقافي، ولكن بطرق مختلفة.
تمثلت المرحلة الأولى بضم المدينة الفلسطينية العريقة الى مستوطنة تل أبيب، وتجميع الفلسطينيين في حيّ العجمي، ما أسفر عن إهمال المدينة العربية وتهميشها، وتراكم مخلفات الهدم في عدة مناطق، لمنع تطوّرها.
بعد النكبة (عام 48) وتهجير الغالبية العظمى من سكان يافا، وضع الكيان الصهيوني أملاك اللاجئين تحت إدارة "الوصي على أملاك الغائبين". تفيد دراسة الباحثة يارا سعدي – إبراهيم (مركز مدار) أن عدد المباني "المهجورة" في يافا، كما صنّفها مسح أجري في العام 1951، بلغ 6162 مبنى، من بينها 658 فقط قدّرت على أنها في حالة جيدة، والباقي صّنف كمعدّ للهدم أم للترميم. لقد تم استخدام وتأجير هذه المباني للفلسطينيين وللمستوطنين اليهود الذين تم جلبهم من أنحاء العالم. صدر في العام 1953 قانون لنقل "أملاك الغائبين" الى "هيئة التطوير" التي أوكلت إدارة الأملاك لشركات حكومية، منها شركتا حلاميش وعميدار. وفّر هذا الانتقال إمكانية بيع ممتلكات اللاجئين في المدن في السوق الحرة.
تمثلت المرحلة الثانية من التهويد بمشاريع تطوير مدينة يافا وفقا للمنظور الغربي النيوليبرالي، ما يعني تجريد الفلسطينيين من سكنهم، الذي تم منعهم من ترميمه طوال فترة إقامتهم فيه، ليتم بيع العقارات بالسوق الحرة، وأخيرا بالمزاد العلني. تتميّز مشاريع البناء في هذه المرحلة بالاستطباق (gentrification) الليبرالي، اليميني أو اليساري، حيث يحاول المستوطن المشتري للعقار أن يتعايش مع "الأصلي" ضمن حدود "مشتركة" (الحدائق المقامة على المنازل المهدمة) وثقافة معينة تلغي التاريخ والهوية.
وقف فلسطينيو يافا ضد مشروع بيع مساكنهم وتهجيرهم وتحويل مدينتهم الى واجهة نيوليبرالية تتحكم فيها الأموال والشركات العابرة للقوميات، فنظّموا أنفسهم في لجان واحتجوا أمام مبنى شركة "عميدار" سابقا لمنع إخلاء العائلات المهددة بالطرد. تتذرع شركة عميدار بأنها تقترح بيع العقار الى من يسكنه، أي الى الفلسطيني المستأجر قبل عرضه للسوق، حيث يتم تهويده. لكن الأساس في الأمر أن هذه الأملاك ليست للبيع، فهي أملاك اللاجئين ولا يمكن أن يتغيّر وضعها، مهما فعل المحتل، حيث يجب منعه من التصرف بها، كما يجب منعه من التصرف بأملاك الأوقاف في يافا والمدن والقرى التي احتلها منذ 1948.
تتميّز المرحلة الثالثة من تهويد المدن "المختلطة"، أي المدن الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال منذ 1948، ومنها مدينة يافا، بإقامة ما يسمى بـ"الأنوية التوراتية" خلال العقد الأول من هذا القرن، لا سيما بعد الاندحار الصهيوني من قطاع غزة في العام 2005. في حين قامت الهجمة الاستيطانية النيوليبرالية في يافا على أطراف الأحياء الفلسطينية الباقية، وبعد هدم وترميم الأحياء الأخرى، لقد أقيمت "الأنوية التوارتية" في قلب الأحياء الفلسطينية. بدأ المستوطنون الجدد التسلّل الى يافا في العام 2007، ثم توسعوا وانتشروا، بفضل الدعم الرسمي الصهيوني ودعم المنظمات الصهيونية العالمية التي تموّل مشاريعهم الاستيطانية.
اعتبر باحثون أن هؤلاء المستوطنين الجدد قادمون من "المناطق" الى "القلب"، جغرافيا وثقافيا، حيث كان بعضهم مستوطنين في قطاع غزة والضفة الغربية، لكنهم يرفضون اليوم العزلة كما هو الحال في مستوطنات الضفة الغربية. يفضّلون الاستيطان في "القلب" وتهويده، و"القلب" هو المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948. يعاني اليوم أهل يافا من هذه الهجمة الاستيطانية الجديدة، التي سرّعت مشاريع بيع أملاك اللاجئين، بسبب وجود المشترين الجدد المتمثلين بمستوطني "الأنوية التوراتية"، الذين يسعون الى تهويد حيّ العجمي، الذي يرمز"لدى الفلسطينيين إلى مراحل هامة في حياتهم، فأغلب الفلسطينيين بيافا ولدوا فيه وقضوا طفولتهم، ما يجعل للحيّ قيمة عالية لديهم كون ذكرياتهم فيه." (علي سعادة)
الاستيطان الجديد المتمثل بـ"الأنوية التوراتية" يمثل المرحلة الحالية من مراحل الاستيطان والتهويد التي تعيشها المدن الفلسطينية في الداخل المحتل عام 1948، الى جانب مواصلة الاستيطان النيوليبرالي وتحويل منازل اللاجئين الى أماكن فنية. ينعت الصهيوني الليبرالي هؤلاء المستوطنين الجدد بالتطرّف القومي والتزمّت الديني، ويرى فيهم تهديدا "للتعايش" الذي ظنّه سائدا في المدن الفلسطينية المحتلة.
لكن الصراع الذي يخوضه أهل يافا ضد الاستيطان والتهجير لا يميّز بين المستوطن الجديد التوراتي والمستوطن الليبرالي العلماني اليساري أو اليميني، فكلهم مستوطنون يسعون الى تهويد المدينة وإزالة الطابع العربي والإسلامي عنها. فالصراع على المسكن في يافا هو أيضا صراع على الهوية والتاريخ والحضارة، والصراع لتحرير الأوقاف الإسلامية ومنع تحويل المقابر الى فنادق أو مواقف للسيارات. هو صراع حضاري بين الحق والباطل، بين أهل البلاد والغزاة.