الاستراتيجية الأمريكية.. عقدان من التحولات (8)

مع تولي الرئيس الأمريكي جو بايدن مقاليد الحكم بالولايات المتحدة في 20 يناير/كانون الثاني 2021، بدأ بشكل سريع محاولة احتواء تداعيات إدارة سلفه دونالد ترمب على الصورة الذهنية للولايات المتحدة، وخاصة لدى حلفائها الاستراتيجيين، وإعادة تموضع الولايات المتحدة في الموقف من المنظمات الدولية والاتفاقيات الدولية التي عصفت بالكثير منها إدارة ترمب، وبعد أقل من شهر ونصف من وجوده في البيت الأبيض نشرت إدارة بايدن “وثيقة التوجيه الاستراتيجي المؤقت لاستراتيجية الأمن القومي” في الثالث من مارس/آذار 2021.
وقد تناولت الوثيقة أبرز التحديات ومصادر الخطر التي تواجه الأمن القومي الأمريكي على المستوى العالمي، والتي جاءت نتاجًا لعدة عوامل من بينها، تداعيات جائحة كوفيد-19، والانكماش الاقتصادي الحاد، والتغيرات المناخية، والمنافسة مع روسيا والصين، والثورة التكنولوجية.
وشارك في إعدادها فريق مستشاري بايدن بالتعاون مع المسؤولين في مؤسسات الحكومة الاتحادية، وخاصة وزارات الدفاع والخارجية والأمن الداخلي، وكان الهدف من نشر نسخة غير سرية من وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأمريكي، إعلام السلطة التنفيذية والكونجرس والشعب الأمريكي والمراقبين الأجانب بالأهداف والتوجهات العامة للإدارة الجديدة، وتعزيز التواصل الاستراتيجي وتحسين صورة المؤسسات الأمريكية التي عصف بها ترمب خلال سنوات حكمه.
أكدت وثيقة بايدن عددا من الثوابت والتوجهات الاستراتيجية، كان في مقدمتها:
1- الانخراط الأمريكي في الشؤون الدولية، وعودة الولايات المتحدة إلى قيادة النظام الدولي الذي أسسته بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، في توجه مخالف لما تبنته استراتيجية ترمب التي أعلنها في عام 2018، والتي ركزت على شعار “أمريكا أولًا”. وشددت وثيقة بايدن على أن الولايات المتحدة لا تستطيع الغياب عن قيادة النظام الدولي، وأنها ستعيد الانخراط وبمنتهى القوة والفاعلية في المؤسسات الدولية والتحالفات الاستراتيجية لضمان ما سمّته الوثيقة “قيادة نظام دولي مستقر ومنفتح”.
2- تعزيز التحالفات والشراكات الأمريكية: حيث أكدت الوثيقة أهمية التحالفات والشراكات الأمريكية واعتبرتها أحد مصادر قوة الولايات المتحدة، ووسيلة من وسائل الحفاظ على مصالح الشعب الأمريكي، ومواجهة التحديات الدولية والحفاظ على أمن النظام الدولي واستقراره، وتكوين جبهة مشتركة وإنشاء قواعد عالمية فعالة، وإنتاج رؤية موحدة للتعامل مع مختلف القضايا ومحاسبة الدول على ما تعتبره الولايات المتحدة انتهاكات حقوقية واقتصادية وفي مقدمتها الصين.
ومن هنا جددت الوثيقة الالتزام الأمريكي بالشراكة عبر المحيط الأطلسي، والتعاون مع الاتحاد الأوربي لمواجهة التحديات القائمة من خلال وضع جدول أعمال مشترك، مع تعزيز العلاقات مع جيران الولايات المتحدة مثل المكسيك وكندا ودول أمريكا الوسطى.
3- الالتزام الأمريكي بدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان: أكدت الوثيقة أهمية الدور الأمريكي في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان عالميًّا، والقول بأن هذا الدور يخدم المصلحة القومية الأمريكية، ومن هنا جاءت الدعوة لعقد قمة عالمية من أجل الديمقراطية لضمان تعاون واسع بين حلفاء الولايات المتحدة وشركائها بشأن المصالح والقيم المشتركة، مع التشديد في الوقت نفسه على استعادة الديمقراطية الأمريكية التي تعرضت لأزمات كبيرة هددت مصداقيتها خلال إدارة ترمب، بعد رفضه نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، واقتحام أنصاره مبنى الكونجرس الأمريكي في 6 يناير 2021، قبل تولي بايدن مهامه بأسبوعين فقط.
وأشارت الوثيقة إلى أهمية وضرورة العمل على استعادة الثقة في الديمقراطية الأمريكية بدعوى أنها ما زالت السبيل الوحيد لتحقيق الازدهار والسلام والحرية، وإثبات أن النموذج الديمقراطي للولايات المتحدة ليس من مخلفات التاريخ، بل لا يزال قادرًا على تقديم العديد من الإنجازات والنجاحات ليس فقط للشعب الأمريكي ولكن أيضًا لمختلف دول العالم.
4- مركزية قضية تغيّر المناخ: حيث أكدت الوثيقة دور الولايات المتحدة الريادي من خلال المنظمات الدولية لمواجهة التحديات العالمية، التي يأتي في مقدمتها مواجهة تغيّر المناخ، والاتجاه إلى الطاقة النظيفة وتقليل انبعاثات الغازات المسؤولة عن الانبعاث الحراري، ومساعدة الدول على التخفيف من آثار التغير المناخي، وتقديم الدعم للمجتمعات المتضررة من الكوارث الطبيعية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
على الرغم من وجود بعض الاختلافات في وجهات النظر، وفي أولويات الحركة بين استراتيجية الأمن القومي التي أعلنها ترمب عام 2018، ووثيقة بايدن 2021، فإن الوثيقتين أكدتا عودة سياسات “منافسة القوى العظمى”، وأن هناك قوتين منافستين للولايات المتحدة هما روسيا والصين، تسعيان إلى تعديل بنية النظام الدولي، وتأسيس نظام دولي جديد يتعارض مع المصالح والقيم والثروة الأمريكية المستقرة منذ 1991، كما يسعيان ـوفق نص وثيقة بايدن- إلى إزاحة واشنطن من مناطق نفوذها وقيادتها للنظام الدولي، ونشر ملامح نظاميهما عالميًّا، وتوسيع نفوذهما على حساب سيادة الدول الأخرى.
ولذلك كان من أهم المحاور الرئيسية في الوثيقة التوجيهية، النص على ضرورة تعاون الولايات المتحدة وتنسيقها مع حلفائها، دولًا ومنظمات، في مواجهة الاختبار الجيوسياسي الأكثر أهمية بالنسبة لها في القرن الحادي والعشرين، المتمثل في علاقتها كقوة عظمى مع الصين التي ترى نفسها في المقابل قوة عظمى، والتعامل مع الصين عبر علاقات متعددة المستويات، وفقًا لطبيعة الملفات محل الاهتمام المشترك، فهذه العلاقة قد تكون بشكل عام، وتعاونية عندما يتطلب الأمر ذلك، وعدائية في بعض الأحيان، إلا أنه أيًّا كان مستوى العلاقة، فقد أكدت الوثيقة ضرورة التعامل مع الصين من موقع قوة وليس من موقع ضعف أو تراخٍ أو تهاون.
استراتيجية بايدن وإعادة التموضع في الشرق الأوسط
تعهدت وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت بحماية أمن إسرائيل والسعي إلى تعزيز علاقاتها مع جيرانها، واستئناف دور أمريكا كداعم لحل الدولتين كما ذكرت (بصيغة واقعية قابلة للتطبيق). وأن واشنطن ستعمل مع حلفائها في المنطقة لردع الاعتداء والتهديد الإيراني، وتهديدات إيران لسيادة الدول ووحدة أراضيها، والقضاء على تنظيم القاعدة والشبكات الإرهابية المرتبطة بها، ومنع عودة ظهور داعش، لكنها ذكرت في المقابل أن الإدارة الأمريكية لن تعطي شركاءها في الشرق الأوسط شيكًا مفتوحًا لممارسة سياسات تتناقض مع المصالح والقيم الأمريكية.
كما تبنت الاستراتيجية رؤية هادفة إلى تغيير مواقع تمركز الجيش الأمريكي في الشرق الأوسط من خلال تحديد حجم القوة اللازمة بالشكل الصحيح بحيث يصبح وجودها العسكري في المستوى المطلوب لتدمير ما سمّته الشبكات الإرهابية الدولية، وردع التهديد الإيراني، وحماية المصالح الحيوية الأمريكية الأخرى، وإنهاء حالة الحروب المستمرة إلى الأبد، والعمل على إنهاء أطول حرب تخوضها أمريكا في أفغانستان، مع ضمان عدم عودة أفغانستان مرة أخرى لتصبح ملاذًا آمنًا للإرهابيين أو قاعدة لشن هجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة.
تبنت إدارة بايدن -في وثيقة التوجيه الاستراتيجي- التأكيد على عدد من السياسات للتخلص من إرث إدارة ترمب، من خلال التأكيد على ضرورة العمل مع الشركاء والحلفاء وبقية العالم، وتخفيف التوتر بشأن التجارة مع الاتحاد الأوربي، والموافقة على إيقاف مؤقت للرسوم الجمركية لمدة أربعة أشهر لكي يتم التوصل إلى تسوية طويلة الأمد.
وكذلك ضرورة نقل الولايات المتحدة محور اهتمامها من الشرق الأوسط إلى منطقة المحيطين الهندي والهادي، وتنشيط وتحديث تحالفات الولايات المتحدة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتعزيز التحالفات في جنوبي وجنوب شرقي آسيا، مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وسنغافورة وفيتنام وغيرها من دول المنطقة، وهي المناطق التي تجاهلتها، بل صعّدت في مواجهتها إدارة ترمب.
في الوقت الذي كان فيه جانب من فريق بايدن يعمل على صياغة ونشر هذه الوثيقة، كانت فِرق أخرى تعمل على الأرض في إعادة الانتشار الأمريكي في أوربا، مع وجود تقارير استخباراتية تؤكد وقوع أزمة كبرى في أوكرانيا تقف خلفها روسيا، لذلك بدأت الإدارة الأمريكية الاستعداد المبكر لهذه الأزمة، وأخذت في ترتيب الأوراق وتوزيع الأدوار بين الحلفاء وخاصة في أوربا والشرق الأوسط، إن لم يكن لمنع الأزمة في أوكرانيا فعلى الأقل الحد من تأثيراتها وتداعياتها الكبرى، ومن هنا جاءت المناورت العسكرية وحشد العتاد العسكري في عدد من دول شرق أوربا حول روسيا وأوكرانيا، وفي منطقة بحر قزوين، والتجهيز لخلط الأوراق مع الصين في ملف تايوان، وإعادة هيكلة عدد من التحالفات الأمنية والعسكرية، في المتوسط وفي جنوب شرقي آسيا، وهو ما نجح حتى الآن -ولو جزئيًّا- في إدارة المواجهة مع روسيا بعد غزوها للأراضي الأوكرانية في 24 من فبراير/شباط 2022، وتبنّي سياسات لاستنزاف القدرات الروسية في هذه المواجهة، لتحجيم قدراتها المستقبلية والحد من طموحات رئيسها في تغيير بنية النظام الدولي القائم الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.