فيلم صالون هدى . . ما عليه وما عليه

حاولت ألاّ أتسرع في الحكم، حينما سمعت وقرأت عن ردود الفعل الغاضبة على فيلم صالون هدى للمخرج هاني أبو أسعد الذي يُعرف بأنه مخرج فلسطيني - هولندي من الناصرة. وقلت في نفسي لعلها تكون حملة مبالغ فيها، أو أن المشهد الذي وصفوه بالإباحي، لعله يكون بالتلميح أكثر منه بالتصريح، أو في أسوأ الحالات ربما مرت الكاميرا بسرعة على ملامح جسد غير مرئية بوضوح، أو قد يكون المخرج أتى بحركة من خلال أحد الممثلين/ الممثلات أشبه بما فعلته منى زكي في فيلم "أصحاب ولا أعز".
ولكن، ما إن شاهدتُ الفيلم، حتى هالني ذلك المشهد الإباحي الصارخ. والمصيبة أن المخرج يُقدَّم على أنه فلسطيني! وكذلك الممثلة التي مثلت دور "ريم"، الأم الشابة التي تم تجريدها من جميع ملابسها وتصوير أجزاء جسدها، وهي ميساء عبد الهادي، تُعرف بأنها ممثلة سينمائية فلسطينية، من مدينة الناصرة، بالإضافة إلى أن منال عوض، التي مثلت دور الكوافيرة "هدى"، مولودة ومقيمة في الضفة الغربية، واكتسبت شهرة من خلال مشاركتها مع زوجها عماد فراجين في مسلسل وطن ع وتر.
عموماً، لا يمكن تخيل أو تحمل أن يحتوي عمل فني فلسطيني أو عربي على مشهد بهذه الوقاحة. بل من الظلم اعتبار الفيلم (فلسطينياً) بغض النظر عن ملابسات هوية المخرج أو الممثلين، أو كون القضية التي يعالجها تتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع مع المحتل.
قصة الفيلم
تدور أحداث الفيلم في محافظة بيت لحم الفلسطينية –مهد السيد المسيح عليه السلام- ويتناول قصة ريم التي تتردد على صالون هدى، دون أن تدري الأولى أن الثانية عميلة للاحتلال بغطاء كوافيرة، وتحاول من خلال عملها إسقاط ما أمكنها من النساء الفلسطينيات، عن طريق تصويرهن عاريات بعد تنويمهن، لتكون ريم إحدى ضحاياها، فتبدأ معاناتها النفسية الشديدة، وتصبح خائفة وقلقة ومتوترة ومشتتة ومكسورة، لا سيما بعد إلقاء القبض على الكوافيرة هدى من قبل المقاومين، الذين يخضعونها لتحقيق ينتهي بقتلها. وتبقى ريم في حالة انكسار، ومرة تحاول الهرب إلى الأردن، وأخرى تحاول الانتحار، وهكذا.
مدى ضرورة المشهد الإباحي
وهنا لا أريد أن أناقش المسألة المثيرة للجدل، المطروحة عالمياً وحتى عربياً، وهي توظيف الجنس في الفن أو الأدب، وإلى أي حدّ، وما غرضه، وما تأثيراته؟ ولكن ما أريد التأكيد عليه هنا، أن هذا المشهد الإباحي في "صالون هدى" لم يكن لوجوده بهذا الشكل الخادش للحياء أي وظيفة أو ضرورة، طالما أن تسلسل الحدث المرتبط بهذا المشهد فيه ما يدل بسهولة على ما وقع للأم الشابة في محاولة لإسقاطها في مستنقع العمالة مع الاحتلال. وهذا يقودنا إلى الاسنتناج أن المخرج يدرك أن اكتساب شهرة واسعة النطاق، يمكن أن تتأتى من مثل هذا المشهد، خاصة في زمن شبكات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى أنه يريد، فيما يبدو، أن يقدم قرباناً للمؤسسات الدولية ذات التمويل السخي! (غير المجاني) ولمؤسسات أخرى تشرف على منح جوائز دولية للأعمال الفنية، وهي جهات لها أجندة ولها معاييرها وأهدافها. فأول ما يصادفك على الشاشة من بداية عرض الفيلم عبارة " IFC Films" لتعرف من خلال جوجل أنها "شركة أمريكية لإنتاج وتوزيع الأفلام مقرها مدينة نيويورك، وهي فرع من قناة الأفلام المستقلة المملوكة من قبل شبكة إيه إم سي التلفزيونية". ثم تأتيك جمل كثيرة باللغتين العربية والإنجليزية عن الإنتاج أو المشاركة فيه من قبيل "أفلام ميمينتو العالمية تقدم فيلم من إنتاج ه.أ. للإنتاج وفيلم كلينيك" و"تم إنتاج هذا الفيلم بدعم من الصندوق الهولندي للأفلام ولتحفيز إنتاج الأفلام الهولندية".
صورة المقاومين والاحتلال والعملاء في الفيلم
وإذا انتقلنا إلى نقطة جوهرية في الفيلم، كان من المفروض التحدث عن خطورتها قبل كل شيء، لولا أن المشهد الإباحي قلب الأمور. والنقطة التي أقصدها هي صورة المقاومين التي قدمها الفيلم، فهم أقرب إلى عصابة، قلوبهم قاسية، ليسوا أفضل من العملاء (هكذا يقدمهم الفيلم) وحتى لو دققنا في بدايتهم لوجدناها بداية غير محترمة. فمثلاً المقاوم الذي حقق مع الكوافيرة، كانت بدايته مع النضال، حينما كان في سن الحادية عشرة، يلقي بالحجارة على جنود الاحتلال وكان قد أقنع صاحبه أن يكون معه، فطاردوهما وأمسكوا به وأفلت صاحبه منهم، ولما سألوه عن الذي ألقى عليهم الحجر، ما كان منه إلاّ أن وشى على صاحبه لينقذ نفسه، ودلهم على بيته، ليقتله جنود الاحتلال أمام والديه. ولاستكمال هذه الصورة البشعة للمقاومين، شاهدنا كيف يقومون بكل وحشية بصب البنزين على عميل الاحتلال وحرقه حتى الموت (العميل الذي كان يشارك هدى في محاولات إسقاط النساء)، وهو يصرخ ويتوسل إليهم، في الوقت الذي لم يقدم لنا الفيلم أي مشهد عن جرائم الاحتلال التي لا تعد ولا تحصى، وحتى مقتل الطفل صديق المحقق (المقاوم) على يد الاحتلال سمعنا عنه ولم نشاهده، وشتان بين هذا وذاك في العمل السينمائي. وهنا لا بد من التساؤل هل هذه هي الصورة الحقيقية للمقاومين، أم أنّ ما تم عرضه في الفيلم من قسوة ووحشية لهم هو استثناء وحالات نادرة، ربما وقعت في فترة تاريخية معينة، قبل قدوم السلطة الوطنية، أي في ظل وجود الاحتلال المباشر؟ مع ملاحظة أن قصة الفيلم تدور أحداثها، في ظل السلطة الوطنية.
وبتحليل شخصية الكوافيرة هدى، وخاصة بعد القبض عليها من قبل المقاومين، نجد أن الفيلم قدمها بشكل منافٍ للحقيقة في مثل هذه الحالات، فهي جريئة، واثقة من نفسها إلى حد كبير، مستهزئة بالمقاومين الذي يحققون معها، حتى أنها مثقفة ولديها أخلاق ومستعدة للتضحية بنفسها من أجل الآخرين حينما حاولت أكثر من مرة عدم الاعتراف على أسماء ضحاياها وخاصة ريم التي تم تصويرها في أوضاع مخلة (وهي نفسها التي استدرجتها وخدرتها وحاولت جرها إلى مستنقع العمالة). وإزاء هذه الصفات لهدى، لا يتكون لدى المشاهد أي انطباع سلبي عنها وهي العميلة للاحتلال، بل ربما على العكس من ذلك ستبقى صورة أولئك الرجال الغلاظ (المقاومين) الذين أحاطوا بها في قبو شديد البرودة والظلمة، وهي امرأة، هي العالقة في أذهان المشاهدين.
نزع المشاهد من السياق الوطني والاجتماعي
وتبقى نقطة مهمة، لا بد من التطرق لها، وهي أن الفيلم، وهو يتناول قضية حساسة جداً (العمالة والإسقاط) ركز على مشاهد مرعبة شكلاً ومضموناً، منزوعة من سياقها الوطني والاجتماعي.
فمثلاً أكبر دورين في الفيلم هما لامرأتين فلسطينيتين، إحداهما عميلة للاحتلال (الكوافيرة) والأخرى ضحية لها، وحتى هذه الضحية حينما اكتشفت أمرها وجدت نفسها وحيدة في الحياة، فلا زوجها ساندها، ولا صديقتها التي ذهبت إليها تبث لها همومها وقفت معها. فأين الرسالة الوطنية هنا؟ وألم يكن بالإمكان تقديم دور إيجابي لامرأة فلسطينية، ولو من باب التوازن (وحفاظاً على الناحية الفنية، ليكن هذا في إطار القضية التي يتناولها الفيلم وليس بعيداً عنها). وإبراز دور إيجابي للمرأة الفلسطينية، لا يعد كذباً أو تهويلاً فالمجتمع الفلسطيني يزخر بقصص النساء التي تصلح لأن تدرس في الجامعات.
ولا يشفع للفيلم إعلامنا في مقدمته أنه مستوحى من أحداث واقعية، فهذا ليس جديداً على أي فلسطيني، إذ إننا نعرف من أيام طفولتنا أن الاحتلال يعمد إلى استغلال كثير من مكونات المجتمع ومنها الكوافيرات، فكما أن هناك قصص إسقاط من خلال هذا الطريق، هناك قصص كثيرة من خلال طرق أخرى.
والمهم في هذا الموضوع، أن محاولة الاحتلال تجنيد عملاء، كان يتم في سياق صراع محتدم، طويل، وشاق، ونضال وطني قدم فيه الشعب والمجتمع الفلسطيني نماذج رائعة جداً على كل المستويات والصعد، ولم يقلل من شأنها، نجاح مخابرات الاحتلال في إسقاط البعض، فهذا أمر طبيعي، ويحدث في كل صراعات ونزاعات الدنيا، قديماً وحديثاً، ولكن العبرة أن الاحتلال فشل في إخضاع هذا الشعب لإرادته، أو تمويت قضيته. هذا هو السياق الوطني الطبيعي، لكل عمل فني يتناول جانباً من جوانب القضية الفلسطينية.