طوفان الأقصى.. بين بروفة التحرير ولغز الاجتياح البري (1-2)

وسط فرحة عارمة لم تشهدها الشعوب العربية منذ الهروب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني في الـ 25 من أيار/مايو عام 2000، جاءت المشاعر الفيّاضة والمتدفّقة الممزوجة بالانتصار صباح الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر، حينما زفّت الأخبار بالزحف والهجوم الاستباقيّ Preventive المنسّق والمخطّط له من جانب كتائب القسّام ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي فيما يسمى غلاف غزة، والذي أسفر عن مقتل أكثر من 1400 إسرائيلي من بينهم 327 ضابطاً وجندياً من فرقة غزة، علاوة على أسر واحتجاز أكثر من 220 شخصاً ما بين جنود وضباط وبعض المدنيين.
ويهمّنا هنا أن نلفت النظر إلى مجموعة من الحقائق الجديدة التي مثّلتها تلك العملية العسكرية الجريئة والمفاجئة:
أوّلاً: أنها المرّة الأولى التي تقوم فيها قوات عربية أو فلسطينية باتخاذ زمام المبادرة والهجوم بقوات ووحدات كبيرة على الجيش الإسرائيلي منذ حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973.
ثانياً: الحفاظ على سرية المعلومات والتدريب على المهمة لشهور، من دون أن يعرف العدو وأجهزة استخباراته عنها شيئاً.
ثالثاً: حجم الإحاطة الاستخبارية لكتائب عز الدين القسّام بالقوات الإسرائيلية المعادية في غلاف غزة ودرجة الترهّل والتسيّب القائمة في صفوفها، فمسحت عار الهزيمة التي كانت قد أصابت الجيوش العربية في الخامس من حزيران/يونيو عام 1967، والتي طالما تغنّت بها "إسرائيل" وعكست بها تفوّقها الاستخباري والعسكري.
رابعاً: نمط وتكتيكات إدارة هذا الهجوم القسّامي ــــ الذي انضمت إليه بعد اللحظات الأولى سرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الإسلامي وبقية فصائل المقاومة في غزة والضفة الغربية ــــ حيث ظلّت بعض وحدات القسام تقاتل في الأراضي المحرّرة في غلاف غزة لعدة أيام، ولم تكتفِ بالتنفيذ والانسحاب الفوري بعد النجاح في تحقيق الأهداف المتمثّلة في ضرب وتشتيت فرقة غزة الإسرائيلية، والحصول على عدد كبير من الأسرى؛ تمهيداً لعملية مبادلة في المستقبل، وبعد أن يهدأ غبار المعركة المقدّر لها الاستمرار لفترة من الزمن قد تطول.
ويشي هذا النوع من القتال القسّامي، وترك وحدات منظمة تقاتل خلف خطوط العدو لفترة، والقيام باستبدالها كلما سنحت الظروف، ليس فقط كقتال تعطيلي – وهو مهم – وإنما في تقديري هو "بروفة" لما سيجري في المستقبل لعمليات موسّعة لتحرير جنوب فلسطين المحتلة في ظل ظروف معيّنة فيما أطلق عليه "المعركة الكبرى".
والآن، وبعد فرحة الانتصار متعدّد المستويات في الأيام الثلاثة الأولى لعملية "طوفان الأقصى" ما الذي جرى؟ وكيف نقرأ خط سير العمليات من الجانب الإسرائيلي من ناحية، ومن جانب قوى المقاومة الفلسطينية من ناحية أخرى؟ وكذا بقية أطراف قوى محور المقاومة الممتد من جنوب لبنان إلى فصائل العراق، انتهاء بأنصار الله في اليمن؟
الطرف الإسرائيلي... والوحشيّة المعهودة وغير المسبوقة
ترتكز السياسة العسكرية الإسرائيلية - كما هي العادة منذ نشأة هذا الكيان – على استخدام وسائل الرعب والقتل والترويع (خصوصاً ضد المدنيين)، هكذا كان الأمر في مذابح دير ياسين أثناء نشأة هذه الدولة عام 1948، وكذا في حرب السويس عام 1956 حينما أقدمت هذه القوات على إعدام الأسرى المصريين في سيناء، وهو ما تكرّر في العدوان الإسرائيلي على صحراء سيناء في الـ 5 من حزيران/يونيو عام 1967 بمعرفة "أريل شارون" و"ديفيد بن عازر" وغيرهما، وكذلك في الهجمات المتكررة على القرى الحدودية في الأردن (قرية السموع) ولبنان (قانا الأولى وقانا الثانية وغيرهما) طوال الفترة الممتدة من عام 1948 حتى توقيع اتفاقيات تسوية واستسلام من جانب بعض الحكومات العربية بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973.
كما استمرّت هذه السياسة الإجرامية الترويعية ضد الشعب الفلسطيني البطل أثناء الانتفاضة الأولى في كانون الأول/ديسمبر عام 1987 ـــ والتي امتدّت لـ 7 سنوات متواصلة ـــ من التنكيل وكسر العظام، وما زالت هذه السياسة حتى يومنا ركيزة من ركائز العمل العسكري الإسرائيلي.
وبرغم تكرار سيناريو القصف الوحشي الإسرائيلي لقطاع غزة في حروبها المتعدّدة ضد القطاع وسكّانه (كانون الأول/ديسمبر2008، كانون الثاني/يناير 2009 ثم 2012 - 2014 - 2018 - 2021)، بيد أن الجديد في حرب عام 2023 هو الحجم غير المسبوق والوحشي وغير الإنساني لعمليات القصف الجوي والبحري والمدفعي الذي قامت به القوات الجوية ضد المدنيين في غزة، وهدم المباني على سكانها ليلاً ونهاراً، ومحاولة تفريغها من السكان فيما يعرف عسكرياً (بالأرض المحروقة)، والإعلان صراحة وبوقاحة من كبار المسؤولين وقيادات الجيش بضرورة هجرتهم إلى صحراء سيناء في مصر.
ولم تتوقّف عند هذا الحد، فمنذ الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر حتى لحظة كتابة هذا المقال (صباح 23/10/2023) تمارس آلة القتل الجوي على مدار ساعات النهار والليل، قصف وهدم المباني على سكان غزة حيّاً بعد حيّ، وعلى رؤوس سكانها من الأطفال والنساء والرجال والشيوخ من دون رحمة، ومن دون أن يرتفع صوت واحد من الفئات الحاكمة في الولايات المتحدة وأوروبا ليعلن احتجاجه، أو يقول: كفى.
وخلال 17 يوماً من القصف الهمجي وحرب الإبادة سقط 5087 شهيداً، من بينهم 2055 طفلاً، و1119 امرأة، جمعتهم فرق الدفاع المدني أشلاء ممزقة، وأسكنتهم في مقابر جماعية، علاوة على أكثر من 15 ألف جريح معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، وجروح الكثيرين منهم خطيرة وحرجة، هذا إضافة إلى 1500 مفقود جميعهم تحت أنقاض منازلهم بينهم 830 طفلاً، كما لم تتورّع آلة الحرب الهمجية عن استهداف المدارس والمساجد والمستشفيات (مستشفى كنيسة المعمداني – وكنيسة الأرمن الأرثوذكس)، مما أدى إلى نزوح أكثر من مليون وأربعمئة ألف من سكان قطاع غزة البالغ عددهم مليونين وثلاثمئة ألف نسمة من مساكنهم في الشمال والوسط، تكدّست بهم المدارس والمستشفيات والشوارع خوفاً ورعباً من القصف المجنون للمنازل من دون إنذار أو تحذير، كما أخرجت من الخدمة 20 مستشفى من بين 35 مستشفى تعمل في القطاع.
كما دمّرت حتى تاريخه نحو 60 ألف وحدة سكنية، بينها 20 ألفاً سوّيت بالأرض تماماً، ولم تعد صالحة للسكن أو الترميم على الإطلاق.
وفي الضفة الغربية المحتلة قامت قوات الجيش الإسرائيلي بعمليات مداهمة قتل فيها 95 شهيداً من شباب المقاومة، وجرى اعتقال أكثر من 1215 شاباً حتى صباح 23/10/2023.
ووسط كلّ هذا القتل الوحشي وعمليات الإبادة "الممنهجة" التي تشابه تلك التي قامت بها فيالق وفرق S.S النازية، كانت العين الإسرائيلية والخوف الأميركي والغربيـــ بدءاً من بريطانيا الاستعمارية مروراً بفرنسا وإيطاليا وألمانيا وبقية المعسكر الغربي ـــ يشغلهم ويقلقهم موقف حزب الله وجبهة الشمال.
ومن هنا جرت ممارسة أكبر محاولة عملية خداع استراتيجي من جانب هذا التحالف من أجل "تثبيت" حزب الله خصوصاً، ومحور المقاومة عموماً على النحو التالي:
من ناحية أولى حرّكت الولايات المتحدة حاملتي الطائرات "جيرالد فورد" و"دوايت أيزنهاور" مصحوبتين بالسفن الحربية والطائرات المرافقة إلى شرق البحر الأبيض المتوسط كرسالة ردع وتهديد، ومن بعدها حرّكت البحرية البريطانية بعض مدمّراتها للغرض نفسه، وبالمثل تحرّكت بعض سفن الأسطول السادس لتتمركز في البحر الأحمر، إضافة إلى وجود مدمّرات أخرى هناك.
ومن ناحية ثانية مارست جلّ القوى الغربية ضغوطاً هائلة على القيادات السياسية الحكومية وغير الحكومية اللبنانية ـــ التي هي في جوهرها معادية لفكرة المقاومة سواء في لبنان أو فلسطين ـــ من أجل ممارسة ضغوطها على حزب الله لضمان عدم مشاركته في الحرب.
ومن ناحية ثالثة وبعد قراءة دقيقة لمضمون خطابات بعض أهم قيادات حزب الله ومحور المقاومة جرى تحديد الخطوط الحمر التي سيكون من الحتمي أن يتدخّل بعدها حزب الله ومعه كلّ فصائل محور المقاومة في الحرب بكلّ ثقلها، وهي "الاجتياح البري" للجيش الإسرائيلي لقطاع غزة من أجل التخلّص من فصائل المقاومة فيها وإبادتها.
ومن ناحية رابعة رفعت "إسرائيل" وقياداتها السياسية والعسكرية طوال 17 يوماً ـــ وما زالت ــــ شعار الحرب البرية واجتياح قطاع غزة كشبح، لكنها في الحقيقة لا تريده ولا تقدر عليه الآن خوفاً من تدخّل حزب الله وبقية فصائل المقاومة في المنطقة. إذاً ما هو التفكير الإسرائيلي الحقيقي؟
السيناريو التالي المتاح تطبيقه عملياً من الجانب الإسرائيلي
1- يقوم سلاح الجو الوحشيّ والإجراميّ بقيادة الجنرال "تومر بار" بالاستمرار لمدة شهر أو شهرين في قصف دموي لسكان ومباني ومرافق غزة حتى تصبح ركاماً لا تصلح للعيش والإقامة.
2- تستطيع "إسرائيل" تحمّل حرب الاستنزاف التي سوف يمارسها حزب الله في الشمال، في إطار الضرب والضرب المتبادل، وإيقاع الخسائر في الأفراد والمعدات بصورة متناسبة.
3- بينما بقية محور المقاومة أو فصائل المقاومة العراقية تضرب بعض القواعد الأميركية في العراق وسوريا، فيما تقف سوريا خارج نطاق المشاركة بالنار في تلك الحرب.
4- حينما تنتهي "إسرائيل" من تحويل غزة إلى ركام وتذبح عشرات الآلاف بين شهيد ومصاب يكون الإنهاك قد نال من شعب غزة، وفقد بعض الثقة في دعم الأشقاء ومحور المقاومة على الصعيد النفسي على الأقلّ.
5- مع استمرار الحصار الخانق والقاتل لغزة وسكانها تضعف قوى المقاومة فيها، ويصبح اجتياح غزة لتصفية قوى المقاومة مهمة صعبة لكن يمكن للعقل العسكري الإسرائيلي المتطرّف تحمّلها، واحتلال الجزءين الشمالي والأوسط من غزة ولو مؤقتاً، وقد تجد سلطة محمود عباس فرصة للعودة إلى غزة بحجج مختلفة مسنودة بدعم مالي وسياسي أميركي وأوروبي، وهي للأسف وظيفة اعتادت عليها سلطة محمود عباس منذ ثلاثين عاماً.
6- وبعد إزالة وتدمير الحكومة المصرية بقيادة الجنرال السيسي منذ عام 2016 مدينة رفح المصرية ـــ التي كانت بمثابة الداعم والسند الرئيسي لسكان قطاع غزة في أيّ مواجهة مع "إسرائيل" ــــ أصبح ظهر قطاع غزة مكشوفاً أمام أيّ عدوان إسرائيلي جديد.
7- سوف تجد الولايات المتحدة والدول الاستعمارية الغربية في بعض الحكّام العرب معاونة لإخراج "إسرائيل" من مأزق الاستمرار العسكري الإسرائيلي على ركام غزة...
وبدا هذا واضحاً في تصريحات بعض هؤلاء المسؤولين: بدءاً من عبد الفتاح السيسي ومحمود عباس ورئيس دولة الإمارات محمد بن زايد وولي عهد السعودية محمد بن سلمان وملك المغرب.
وهكذا نستخلص أن الولايات المتحدة والإسرائيليين والدول الأوروبية الاستعمارية وبعض قوى الداخل اللبناني قد اعتبروا أنهم نجحوا في (تثبيت حزب الله وإيران ومحور المقاومة) حتى تنفرد "إسرائيل" بقطاع غزة وتحوّله إلى ركام... والتهديد بالاجتياح البري مجرّد شبح (تثبيت) متكرّر للحزب لكي ينتظر حتى يبدأ الاجتياح البري ويتدخّل... وهذا غالباً لن يحدث، والأرجح أنهم سوف يستمرّون لمدة شهر أو أكثر في القصف الوحشي حتى تصبح غزة شمالاً وجنوباً ركاماً لا تصلح للإقامة فيها.
والآن... كيف تتصرّف فصائل المقاومة في غزة وبقية الأراضي الفلسطينية؟ وما هي أوراق القوة التي تملكها؟ وكيف ينبغي أن تتصرّف قوى محور المقاومة قبل أن تتحوّل غزّة إلى مقبرة جماعية؟