تسخين الجبهات في معركة ما بعد الهدنة... استراتيجيات تتخطى حسابات القطاع

بعد هدنة استمرت سبعة أيام، عاد الكيان الصهيوني إلى استكمال حربه على غزة، على نحو يوحي في أن تقديره حسابات الربح والخسارة قد تخطّى ما يُفترض منطقياً لناحية حساب تكلفة العملية العسكرية على القطاع على مستوى الخسائر البشرية المباشرة في مواجهة حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، أو غير المباشرة على جبهته الشمالية في مواجهة حزب الله، ومن دون أن ننسى خسائره من جراء تحرك أنصار الله في البحر الأحمر في مقابل ما يمكن أن يحققه من إنجازات.

فقراره العودة إلى الميدان في ظل فشله في تحقيق أي إنجاز عسكري في القطاع، ومن دون أن يردعه إصرار المحور على منعه من تحقيق الأهداف المعلنة وتلك الضمنية، يؤكد تصنيفه هذه المعركة على أنها مصيرية، وترتبط بمستقبله، ولا تحتمل ادعاءه انتصاراً تقابله المقاومة بإعلان انتصارها بالنقاط، كما حدث في المعارك السابقة في غزة أو في جنوبي لبنان، مع ما قد يعنيه هذا الأمر من نقاش داخلي يضع فعالية المستويات السياسية والعسكرية والأمنية، في مواجهة الأخطار التي تهدّده، موضع جدل ونقاش.  

وإذا انطلقنا من مقاربة الإنجازات التي حققتها المقاومة في اليوم الأول، وبعد ذلك من خلال تصديها للهجوم البري، ورفضها الانصياع لمنطق ترجمة المجازر بحق المدنيين كإنجازات سياسية، مع ما يعنيه هذا الأمر من فشل استراتيجي إسرائيلي مرتبط بعدم قدرته على تحقيق الأهداف التي أعلنها، فإن القرار الإسرائيلي بشأن العودة إلى الخيار العسكري لا يُمكن قراءته إلا بطريقة واحدة.

فما عجز الكيان عن تحقيقه طوال 49 يوماً من الاستخدام المفرط والمتفلت من القيود لترسانته الحربية لن يكون متاحاً في هذه المرحلة، وخصوصاً أن قراءة المقاومة في غزة، ومن خلفها المحور، لأهداف المعركة الحالية، ستفترض إصراره أولاً على إلغاء أي أثر للمقاومة في غزة، ثم تغيير الواقع الديمغرافي في القطاع، من خلال تهجير الجزء الأكبر من سكانه إلى مصر، أو إلى أي من الدول التي تتكفل استقبالهم، بعد أن كان من الممكن في المرحلة السابقة قراءة الهجوم على غزة في إطار الضغط الميداني على المقاومة بهدف فرض إملاءات وتنازلات تتعلق بالأسرى وبمرحلة إدارة القطاع في مرحلة ما بعد المعركة.

وبالتالي، فإن انتقال المقاومة من مرحلة توجيه الضربات الخاطفة إلى القوات المهاجمة وامتصاص أثر الهجوم الجوي، بهدف إفشال التكتيك الإسرائيلي الذي قام على أساس استغلال الضغط الميداني في السياسة، إلى مرحلة الصراع من أجل البقاء والمحافظة على قطاع غزة معقلاً أخيراً للمقاومة الفلسطينية، سيدفع إلى تغيير استراتيجيات المواجهة وآلياتها في غزة، بحيث يمكن التقدير أن المرحلة المقبلة قد تشهد تغييراً في خططها الدفاعية لناحية محاولة المساس بالعمق الإسرائيلي، أمنياً واستراتيجياً، انطلاقاً من منطقة ديمونة وصولاً إلى حاويات الأمونيوم في حيفا، مروراً بالقطاع الطاقوي الإسرائيلي، مع ما يعنيه هذا الأمر من تهديد لسلاسل التوريد العالمية في الشرق الأوسط.

فمستوى التهديد الإسرائيلي المرتبط بأهداف تتخطى الخطوط الحمر الفلسطينية، لتطال مسألة وجود قطاع غزة، سيشكل دافعاً إلى رسم أطر خيار فلسطيني شبيه بخيار شمشون الإسرائيلي.

بالإضافة إلى ذلك، ولأن السردية المقاومة تؤكد ضرورة قراءة المشهد في غزة ضمن مشهد أوسع يتعلق بمحور أصرّ على تفعيل وحدة الساحات منذ اللحظة الأولى للعدوان على غزة، فإن ذلك سيدفع إلى ضرورة تقدير التغييرات التي ستفرض نفسها على استراتيجيات الساحات الأخرى، وإعادة قراءتها، من لبنان إلى اليمن مروراً بالعراق وسوريا.

ولأن مقومات صمود المقاومة في غزة لا يمكن إلا أن تكون مرتبطة بمقومات صمود بيئتها الحاضنة، فإن العدوان على القطاع سيترك على الأقل أثراً، معنوياً ونفسياً، في قرار المقاومة في غزة، على نحو يضع على كاهل ساحات المحور مهمة إضافية تتمثل بتسخين جبهاتها وتصعيد مستوى مساندتها للمقاومة في غزة.

فمن خلال محاولة سبر كل من مهمات المقاومة في غزة من جهة، ومهمات المحور من جهة ثانية، في مرحلة ما بعد الهدنة، يمكن ملاحظة أن المرحلة الحالية ستفرض إعادة ترتيب الأولويات، وتقويم المخاطر التي تُعَدّ تهديداً في المدى المنظور.

فمحاولة تقويم الأهداف، التي انطلق منها الكيان في هجومه الحالي على القطاع بعد رفضه استمرار الهدنة التي نجحت حركة المقاومة في إظهارها على أنها اعتراف إسرائيلي بفشل مشروعه في القضاء عليها، بحيث حتمت عليه الخضوع لشروط قيادتها وللوتيرة التي تراها هذه الأخيرة ملائمة على مستوى مراحل تبادل الأسرى والمعتقلين، تدفع إلى ضرورة مقاربة رد فعل المحور بطريقة متباينة عن المرحلة السابقة.

فالقرار الإسرائيلي بشأن استكمال حربه على القطاع من دون أي تغيير في تكتيكاته وإصراره على تحقيق الأهداف التي أعلنها بعد 7 أكتوبر، من دون أن يكترث أو يتأثر بما لحق به من خسائر في الجبهة الشمالية وقرب مضيق باب المندب، يُظهر أن التكتيك الذي اعتمدته ساحات الإسناد في جنوبي لبنان والعراق واليمن، على الرغم مما طاله من أضرار بشرية واستراتيجية، لم يكن كافياً ليحول دونَ عودة الكيان إلى الحرب ودونَ إصراره على تحقيق أهدافه الاستراتيجية.

وبالتالي، فإن هذا الواقع سيفترض تغييراً في تكتيكات المحور، بحيث يفترض أن يدفع إلى إقناع الكيان بأنه أعجز من أن يتحمل الثمن الذي سيدفعه إذا استمر في مشروعه.

وإذا تأكدت صحة التقدير، الذي يفيد بأن المدى الزمني المتاح للعملية الحالية لن يكون مفتوحاً كما في المرحلة السابقة، فإن الاستراتيجية العسكرية، التي يحاول الكيان تنفيذها، تستند إلى ثلاثة مرتكزات.

فإلى جانب خططه تكثيف الغارات الجوية والهجوم البري، بالإضافة إلى إعلانه خططاً لحرب طويلة، تسانده خلالها منظومة دولية لا تتوقف على الدعم الأميركي اللامحدود، وإنما تشكل الدول الأوروبية وبعض دول جبهة التطبيع جبهات مساندة له، يبرز المرتكز الثالث، بحيث يقدّر المستوى السياسي في الكيان أن الدعم الذي تقدمه جبهات المقاومة لن يتخطى في حدوده ما أقدمت عليه في المرحلة السابقة.

وبالتالي، إذا كان محور المقاومة مصراً على إفشال مخططات الكيان في حربه الأخيرة، فيُفترض ألّا يكون التقدير بشأن محدودية المدى الزمني لهذه المعركة عاملاً مطمئناً، بحيث إنه يستند إلى اعتقاد إسرائيلي بشأن إمكان تحقيق هزيمة المقاومة في غزة في مدة زمنية قصيرة يتمكن الكيان خلالها من استيعاب ضربات المقاومة في الجبهات الأخرى.

بناءً عليه، إذا كان الكيان رفع مستوى التحشيد العسكري إلى أقصاه، وفي ظل عدم تمكن الجيش الإسرائيلي من تكثيف غاراته الجوية، بحيث إنها وصلت إلى ذروتها على المستويين التدميري والعددي، مع الإشارة إلى مستوى الدعم الغربي غير المسبوق، فسيظهر المرتكز الثالث في التقدير الإسرائيلي على أنه المؤثر الحقيقي في مسار المعركة ونتيجتها النهائية.

وبالتالي، فإن التصعيد، الذي تشهده الحدود الشمالية مع لبنان، بالإضافة إلى المسار الجديد الذي تفرضه الجبهة اليمنية في البحر الأحمر، لا يمكن أن يُقرآ في إطار مساعدة المقاومة في غزة على رد العدوان فقط، وإنما يُفترض قراءتهما وفق أسس إفشال الاستراتيجية التي يحاول الكيان تنفيذها من بوابة الحرب على غزة. 

disqus comments here