الغموض القاتل.. "طوفان الأقصى" وجبهة لبنان (2-2)

يعيدنا احتمال انخراط جبهات أخرى في "طوفان الأقصى" إلى ساعة الصفر التي فجّرت الملحمة. عملية بهذا المستوى من التخطيط، وهذا الحجم من التنفيذ، لا بدّ من أنها خضعت لتقييم دقيق وشامل لم يستثنِ الجوانب السياسية واستجابة حلفاء "إسرائيل" المحتملة، إضافة إلى التبعات والمفاعيل التي ستنجم عن الضربة الأولى على مختلف المستويات.
من دخل معركة بهذا الزخم بدا كأنه يكشف أوراقه كلها دفعة واحدة. بدت حماس كأنها تضع رصيدها كله فوق الطاولة: نكون أو لا نكون. هذا لا يحدث كل يوم. لا يشبه أي معركة أو حرب خاضتها غزة سابقاً. يحصل فقط في مرحلة التصفيات، في ربع الساعة الأخيرة من الصراع، عندما يخرج اللاعبون إلى حيّز التنفيذ مفاجآتهم الكبرى وكل ذخرهم المعدّ لـ"يوم الحساب".
يدعم هذا الاستنتاج ما كشفه الناطق باسم حركة حماس أبو عبيدة مساء الخميس الماضي من تفاصيل على المستوى العملياتي وعلى مستوى الخداع الاستراتيجي والتمويه الذي مهّد ليوم الطوفان. ما كُشف عنه بات معروفاً عند الإسرائيلي. ليس من السهل إعادة بنائه بسرعة أو إعادة تدويره بسهولة.
غزة أمام الخيارات الصعبة
فصائل المقاومة في غزة لا بدّ من أنها كانت تتحسب لرد فعل إسرائيلي مجنون. خياراتها التي سبقت الطوفان، وبالعودة سنوات إلى الوراء، كانت تضيق مع الوقت. كانت تعلم أن خيار المقاومة مُكلف، لكن ما دونه أكثر كلفة.
تعمّدت غزة مراراً بالنار والدماء. باتت ضليعة بالألم والمجازر والموت على صعوبته. لو لم تبادر قبل أسبوع، لكانت الحرب عليها مسألة وقت. خلال 18 عاماً تلت الانسحاب الإسرائيلي منها، لم تخرج من جولة قتالية إلا إلى حصار خانق. وُضعت أمام خيارين: إما الموت المدوّي بالقنابل وإما الموت الصامت بالحصار. ما عدا ذلك هو استسلام. غزة التي أبت الاستسلام ميتة في كل الأحوال، فماذا بمقدورها أن تفعل؟
بموازاة ذلك، كان الاحتلال يحاول تجريدها من أوراق القوة عبر فصلها وعزلها وابتزازها بالأموال والعمال، فيما يتقدّم هو خطوات عملية تترجم مشروع تهويد المقدسات وعملية الضم والاستيطان ضمن مشروع الحكومة الإسرائيلية القاضي بتصفية القضية الفلسطينية وحسم الصراع.
أوغلت الحكومة الإسرائيلية الأكثر يمينية في تاريخ الاحتلال بانتهاك المقدسات واستمرأت التغوّل. في ظل هذه الظروف، جرى تفجير "طوفان الأقصى". لم تغب عن المخططين المرحلة الحساسة التي تمر بها "إسرائيل" على المستوى الداخلي. توقيت المبادرة كان محسوباً بدقّة. المبادأة بهذا المستوى ليست أسلوباً اعتيادياً على امتداد الصراع. لطالما كانت المقاومة تتلقى الضربات والخسائر وتحاول ردها بما تيسّر من أدوات. خلال "سيف القدس"، خرجت غزة للمرة الأولى في قضية أبعد من الحصار. لم يمضِ على ذلك سوى عامين وبعض الشهور. في المبادأة الثانية، كانت الضربة التي لن تتعافى "إسرائيل" منها.
ضربة بهذا الحجم يُستبعد أن تكون مقطوعة الصلة تماماً عن التنسيق والتعاون المستمرين مع شركاء المقاومة الفلسطينية، رغم أن الخطة والتنفيذ دُمغا بختم أصحاب الأرض.
الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة أشار الخميس الماضي إلى أنّ "وتيرة التنسيق مع محور المقاومة ازدادت وتطورت في ما يتعلق بمستقبل الصراع مع العدو قبل المعركة". في اليومين الفائتين، ذكر مصدر في المقاومة الفلسطينية للميادين أن المقاومة تعمل وفق خطط عمليات معدّة مسبقاً، ومن خلال تنسيق كامل مع غرفة عمليات محور المقاومة.
على الضفة الأخرى، أعرب عضو الكنيست غدعون ساعر عن اعتقاده بأن حماس ما كانت لتبدأ بهذه العملية لو لم تكن جزءاً من خطة شاملة.
من افتتح هذه الملحمة لا بدّ من أنه قدّر أننا نتجه غالباً إلى معركة طويلة، وأعدّ لها العدة. "إسرائيل" رجّحت أن تستمر في عدوانها أسابيع، وربما شهوراً. من جديد، الوقت لا يجري لمصلحتها، لا في المنحى العام الذي يعد بالشهور والسنوات، ولا على المستوى التكتيكي خلال المعركة الحالية.
تنقل "القناة 12" الإسرائيلية عن رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية سابقاً، اللواء في الاحتياط داني روتشيلد، قوله بخصوص غزة: "ليس لدينا كل الوقت. نحن نتصرف كما لو أن لدينا كل الوقت الذي في العالم... ليس لدينا وقت غير مقيد".
حرب العقول
يدرك الفاعلون في محور المقاومة، ابتداءً من فلسطين، وصولاً إلى إيران، أن المعركة الدائرة اليوم هي معركة عقول قبل أن تكون معركة صواريخ. معركة كهذه يفترض أن تُدار بقلب ناري، لكن بعقل بارد.
ما ميّز المقاومة في العقود الأخيرة وجعلها تصل إلى ما وصلت إليه اليوم، سواء في فلسطين أو لبنان، هو ابتعادها من الانفعالية والعشوائية واعتمادها على التخطيط والانضباط.
المجازر ثقيلة على أهل غزة من دون أي شكّ. ظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة بالتأكيد. مشاهد الأطفال لا ريب في أنها تدمي القلب، لكنّها لا تعادل ولا توازن وجع أي أم أو والد فقدا عزيزاً في غزة. من يده في النار ليس كمن يده في الماء.
مع ذلك، ربما من المفيد كبت الغضب أحياناً وتأجيله إلى يوم الاستحقاق. تعرضت غزة للمجازر مراراً وتكراراً، وقدّمت تضحياتها نيابة عن الأمة. اليوم، هو استحقاق الأمة بكاملها من دون استثناء، أنظمةً وشعوباً. ليس من المبالغة القول إننا اليوم إزاء معركة مصيرية، ليس مجرد جولة قتالية على شاكلة الحروب والمعارك التي سبق أن خاضتها غزة.
المقاومة في غزة ما زالت بخير وقادرة على الصمود لشهور، كما يؤكد أهلها. فتح جبهة جديدة الآن بتوقيت "إسرائيل" لن يخفّف بالضرورة الضغط عن غزة، حيث يحشد الاحتلال ما يكفي من أصول عسكرية هناك، ويوزّع قدراته وإمكاناته على كل الجبهات. أي تدّخل عسكري من جنوبي لبنان بغير توقيت المقاومة كفيل بتعطيل عنصري التأثير والفعالية من المبادرة. تشير "القناة 13" الإسرائيلية إلى أن "حزب الله لا يردعنا في الشمال فحسب، إنما يردعنا من العمل بصورة حازمة في غزة أيضاً".
الغموض المُضني
تبدو المعركة طويلة. إدارتها تتطلب الحكمة والصبر والذكاء. من هذا المنطلق، ليس من المجدي الضغط على حزب الله أو أي طرف في محور المقاومة لدخول الحرب الآن وفوراً. إن أي قرار من هذا النوع، عندما يحين وقته، سيكون عنوانه تغيير التاريخ والجغرافيا، وليس تخفيف الضغط عن غزة فحسب.
ما يقلق "إسرائيل" الآن هو الغموض الثقيل عند جبهة لبنان. ترقّبها طيلة الوقت يثير أعصابها ويضطرها إلى تنفيذ استنفار مُرهق وتأهب مُضنٍ. العمليات المتفرّقة عند الحدود تجعلها متوترة وتمارس عليها ضغوطاً هائلة. ينقل موقع "يديعوت أحرنوت" عن وزير في الحكومة الإسرائيلية قوله إن "هناك احتمالاً معقولاً أن يكون الحادث في الجنوب مجرد إلهاء عن حرب في الشمال".
رفع نسبة الغموض يفيد المعركة بينما تخاض ضد الاحتلال عملية استنزاف على كل الجبهات، من بينها جبهة لبنان. يقول الصحافي الإسرائيلي أوهاد خمو في القناة 12 إن "ما يجري في الشمال هو ببساطة حرب استنزاف على الحدود اللبنانية".
"إسرائيل" مرتبكة وخائفة ولا تعرف متى تُفتح عليها أبواب الجحيم من لبنان وكيف. كل ما تعرفه أنها لا تريد هذا السيناريو. يعترف العميد في الاحتياط أساف أغمون صراحة: "نحن لا نستطيع الدخول في حرب مع حزب الله بمبادرة منا، وبصورة غير مخطط لها. هم سيهزموننا، نعم هم سيهزموننا".
بدوره، يقول المراسل العسكري في القناة 13 أور هيلر: "السؤال المطروح الآن: هل اتخذ حزب الله القرار بالدخول إلى المعركة أم لا؟ نحن لا نعرف الجواب عن هذا السؤال. هل نصر الله والإيرانيون أخذوا القرار بالدخول إلى الحرب؟ لا نعرف. نأمل ألا يكونوا قد اتخذوا قراراً كهذا، لكننا نستعد لهذا السيناريو".
معركة مصيرية
واقعياً، نحن اليوم في خضم حرب لا تشبه أي جولة سبقتها، بدليل حضور الأساطيل الأميركية وغير الأميركية إلى المتوسط على عجل.
الواقع المزري الذي تمرّ فيه "إسرائيل" جعلها تُسقط كل المحرمات وأوراق التوت، إلى درجة لم تعد تخجل من الاستقواء بأميركا، بخلاف الدعاوى والمزاعم السابقة حول قدراتها الذاتية وثقتها بالدفاع عن نفسها من دون الحلفاء. وزير الثقافة والرياضة في الحكومة الإسرائيلية ميكي زوهر قال أخيراً في محاولة ردع محور المقاومة: "أريد أن أقول لحزب الله وإيران بوضوح إن الرئيس بايدن قال: إذا فتحت جبهة أخرى ضد إسرائيل، فإنها ستكون جبهة ضد الولايات المتحدة".
خلاصة القول، إن من بادر إلى "طوفان الأقصى" لا بدّ من أنه فكّر في اليوم التالي. محور المقاومة يخوض اليوم معارك النهايات. في هذه الحالة، تفعّل أوراق القوة في أوقاتها المناسبة. من الأفضل أن يبقى منسوب القلق مرتفعاً عند الإسرائيلي في إطار الردع والحرب النفسية. دخول حزب الله الحرب، متى حان الموعد، لا يشبه أي شيء آخر. ما إن يتجاوز الحدود، لن تعود الجغرافيا إلى ما كانت عليه.