كتب أنطاس شحادة….نهاية الحرب على غزة أم استمرارها بأدوات أخرى؟
أنهى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، زيارته لإسرائيل وشرم الشيخ يوم الاثنين الماضي، التي وقّع خلالها على إعلان رسمي لوقف الحرب على غزة. ومع ذلك، سرعان ما بدأت التساؤلات تطرح عن “اليوم التالي” للحرب: هل يشكّل هذا الاتفاق فعلاً نهاية حرب الإبادة على غزة، أم أنّ إسرائيل ستلجأ ـ كما فعلت مراراً خلال مراحل الحرب ـ إلى المراوغة والمماطلة والتنصّل من التزاماتها، لتواصل الحرب بأساليب أخرى أقلّ وحشية وأضيق نطاقاً.
قدّم ترامب، في خطابه أمام الكنيست، رؤية تعبّر بوضوح عن تبنيه الكامل للموقف الإسرائيلي من الحرب على غزة ونتائجها. وأوضح ترامب أنّ هدفه الأساسي يتمثّل بضمان أمن إسرائيل، الدولة “الصديقة والحليفة”، في مواجهة أي تهديدات إقليمية محتملة. وشدّد على ضرورة تفكيك سلاح حركة حماس وحزب الله، وإضعاف إيران، إلى جانب تعزيز مسار التطبيع وإقامة علاقات طبيعية بين إسرائيل والدول العربية الغنية.
كذلك منح ترامب دعماً واضحاً لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وامتدحه خلال خطابه ووصفه بأنه زعيم عظيم وصديق، الأمر الذي يمكن اعتباره بمثابة الافتتاح غير الرسمي لحملة نتنياهو الانتخابية المقبلة. فقد احتضن ترامب إسرائيل ونتنياهو سياسياً ومعنوياً، وتعهد بالحفاظ على أمن إسرائيل. وبذلك، قال ترامب للإسرائيليين ما يطرب أسماعهم من جهة، لكنه أوضح من جهة أخرى أن أمن إسرائيل مرتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرات الدولة العظمى الراعية ومواردها، أي الولايات المتحدة الأميركية. دون الدعم الأميركي العسكري، وتزويد إسرائيل بالأسلحة المتطورة، والمساندة الاقتصادية والدبلوماسية، ما كانت إسرائيل لتتمكن من مواجهة جبهات متعددة، ولا من الصمود أمام الضغوط الاقتصادية والعزلة الدولية المتزايدة. لقد منح ترامب إسرائيل غطاءً سياسياً وعسكرياً واسعاً، لكنه في الوقت ذاته ذكّرها بحدود قوتها الذاتية واعتمادها البنيوي على واشنطن.
هل استوعبت إسرائيل حدود القوة؟
لم يحقق اتفاق إنهاء الحرب على غزة جميع الأهداف التي وضعتها إسرائيل لنفسها. صحيح أنّ الاتفاق أفضى إلى استعادة الأسرى والمخطوفين، وتضمّن بنوداً تتحدث عن نزع سلاح حركة حماس، وتشكيل حكومة تكنوقراطية لإدارة القطاع دون مشاركة حماس أو السلطة الفلسطينية، إلى جانب تلبية بعض المطالب الأمنية الإسرائيلية مثل إقامة منطقة عازلة، إلا أنّ نتائجه جاءت على عكس ما روّجت له القيادة الإسرائيلية طوال شهور الحرب. فقد ادّعت الحكومة الإسرائيلية مراراً أنّ الضغط العسكري وحده هو الكفيل بإطلاق سراح الأسرى والمخطوفين، والقضاء التام على حركة حماس. لكنّ الواقع أثبت العكس: فإعادة الأسرى والمخطوفين تحققت فقط من خلال اتفاق سياسي، لا عبر العمليات العسكرية. كذلك يبدو أنّ إسرائيل فشلت في القضاء الكامل على القدرات العسكرية أو المدنية لحركة حماس، ما يشير إلى أنّ إطالة أمد الحرب على غزة وما رافقها من دمار وقتل لم تكن ضرورات عسكرية بحتة، بل كانت تخدم أهدافاً سياسية وأيديولوجية وشخصية لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وحكومته.
وفشلت إسرائيل أيضاً في تحقيق أهدافها الأيديولوجية والعقائدية من الحرب، وعلى رأسها تهجير سكان قطاع غزة، وإعادة احتلاله بالكامل، واستئناف الاستيطان فيه. فعلى الرغم مما تصفه إسرائيل بـ”الإنجازات العسكرية” وقتل آلاف المقاتلين وعشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء، فإنها لم تتمكّن من فرض إرادتها الكاملة، ولم تحقّق أهدافها النهائية، لا في قطاع غزة ولا في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية ككل.
كشفت حرب الإبادة على قطاع غزة، إلى جانب الحرب على لبنان وإيران، أن التفوق العسكري وحده لا يكفي لتحقيق الأهداف الاستراتيجية والسياسية. فقد أظهرت هذه الحروب أن للقوة حدوداً، سواء من حيث القدرات العسكرية أو الموارد الاقتصادية والبشرية. وعلى الرغم من تفوّق إسرائيل العسكري الهائل وتقدّمها الاقتصادي والتكنولوجي، فإنها لا تزال بعيدة عن أن تكون كياناً مكتفياً ذاتياً. إذ ما زالت تعتمد اعتماداً جوهرياً على المساعدات العسكرية والاقتصادية من الولايات المتحدة، وعلى علاقاتها التجارية والاستثمارية مع أوروبا التي تشكّل شرياناً أساسياً لاستمرار نشاطها الاقتصادي واستقرارها المالي.
أظهرت حرب الإبادة أيضاً أن إسرائيل لم تعد قادرة على احتكار دعم الرأي العام الدولي أو السيطرة عليه كما اعتادت لعقود طويلة، خصوصاً في العالم الغربي. فصحيح أن المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة، والمحكمة الجنائية الدولية، والمنظمات الحقوقية العالمية، والدول العربية، فشل في وقف المجازر أو حتى الحدّ من حجم الدمار والمعاناة الإنسانية في القطاع على مدى عامين من الحرب على غزة، إلا أن الشعوب كانت الفاعل الحقيقي الذي نجح في كسر صمت العالم.
لقد أثبتت الحركات الشعبية والاحتجاجات العالمية أن إرادة الجماهير قادرة على إعادة تشكيل الرأي العام الدولي حول قضية إنسانية وأخلاقية كالقضية الفلسطينية، وعلى مواجهة رواية القوة والهيمنة الإسرائيلية. فلا يمكن تخيّل التحوّل في مواقف عدد من الحكومات الأوروبية المركزية ـ مثل إسبانيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ـ من دون موجات المظاهرات والاعتصامات التي اجتاحت شوارع تلك البلدان، وأجبرت قادتها على إعادة النظر في سياساتهم أو تقليص مستوى دعمهم لإسرائيل. بل إن القضية الفلسطينية تحولت إلى قضية سياسية داخلية في معظم دول العالم. فالأحزاب والقيادات والحكومات باتت تدرك أن موقفها من حرب الإبادة في غزة يمكن أن ينعكس مباشرة على موازينها الانتخابية، وعلى أنماط التصويت وسلوك الناخبين، خصوصاً بين فئات الشباب. هذا التحوّل لن يختفي بانتهاء العمليات العسكرية وحرب الابادة، بل سيظلّ حاضراً في الخطاب السياسي العالمي لسنوات طويلة، مؤثّراً في تشكيل الرأي العام وصياغة السياسات.
ما بعد الحرب على غزة
الآن، وبعد انتهاء حرب الإبادة على غزة، بدأت صورة إسرائيل ومكانتها الدولية تتبدّل بعمق. فإسرائيل التي تدّعي أنّها “دمّرت قطاع غزة”، تدرك اليوم ـ على الأقل في أوساط نخب فكرية وسياسية واسعة ـ أنّها دمّرت أيضاً صورتها ومكانتها التي راكمتها عبر عقود طويلة. لقد فقدت إسرائيل العديد من روافع القوة الناعمة التي ساعدتها في الماضي على تبرير سياساتها العسكرية والاحتلالية، وتراجعت قدرتها على التأثير في الرأي العام العالمي، كما كانت تفعل من قبل.
من المرجّح أن تواجه إسرائيل صعوبة حقيقية في العودة إلى الحرب بالصورة نفسها، بعد تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق تبادل الأسرى وبدء الترتيبات السياسية. ومع ذلك، إن احتمال استمرار الحرب بأشكال أخرى أقلّ عنفاً يبقى قائماً، سواء من خلال منع إدخال المساعدات الإنسانية، أو عرقلة جهود إعادة الإعمار، أو تقييد الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية والاقتصادية، وهي كلها أدوات مختلفة لسياسات السيطرة والتهجير البطيء.
لذلك، إن وقف الحرب على غزة لا يُنهي الصراع، بل يفتح فصلاً جديداً منه، فصلاً دبلوماسياً وسياسياً ووطنياً. وفي هذه المرحلة الدقيقة، من الضروري استثمار الدروس والعِبَر المستخلصة من الحرب، خصوصاً في ظلّ اختلال ميزان القوى العسكري لصالح إسرائيل، والعمل على تعزيز الضغط الدولي والعربي المستمر لمنع عودة الحرب بصيغٍ أخرى، وللتصدي لمحاولات إسرائيل لفرض رؤيتها وأهدافها في اليوم التالي للحرب.