الميدان لغزة والدبلوماسية لواشنطن والسقوط لنتنياهو !

في وسط  تل أبيب دوّت عاليا مساء السبت الماضي صيحات الغضب ضد رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو بينما رفرفت في غزة رايات المقاومة المنتصرة وعم الفرح كل ارجائها على أنقاض حربٍ مدمرة امتدت لعامين وبين العدوان والصمود كانت واشنطن  بهدوء وحذر ترسم خيوط دبلوماسيتها الدقيقة وملامح مرحلة جديدة في الشرق الأوسط  لم تعد فيها إسرائيل تملي المطالب والشروط بل اصبحت تتلقاها من وسطاء يفرضون عليها ما عجزت عن تحقيقه عسكريا بالتهديد والغطرسة والسلاح

خلال احتفالٍ جماهيري حاشد عقد بعد يومين من التوصل للهدنة أرادته حكومة الاحتلال لحظة نصر رمزي وقوة جبارة تحولت الاحتفالية إلى إعلان جماهيري عن فشل القيادة الإسرائيلية في تحقيق أي من أهداف الحرب ومحاكمة علنية لنتنياهو حين صعد المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف ( رجل الأعمال والمستشار السياسي المقرب من الحزب الجمهوري الأمريكي )  ليعلن أن اتفاق وقف إطلاق النار كان معجزة سياسية تحققت بفضل شجاعة كل الأطراف لكن الجمهور الإسرائيلي الغاضب قاطعه بصيحات استهجان وعبارات نابية فور ذكره اسم نتنياهو فارتبك المحتفلون واهتزّت صورة الرجل الذي طالما قدم نفسه حارس أمن إسرائيل الأول وملكها غير المتوج

مع تلك اللحظات الدقيقة بدا واضحًا أن السقوط السياسي لنتنياهو لم يعد احتمالًا بل بات واقعًا ماثلًا أمام العالم فالعرس الرسمي الذي خُطِّط له لتتويج إنجازات الحكومة والجيش تحول إلى مرآة لخيبة الداخل الإسرائيلي حين ارتفعت اللافتات التي تصف اتفاق غزة بأنه هزيمة مقنّعة بعدما تجلّى الانقسام العميق داخل المجتمع الذي لم يعد يثق بقدرة قيادته على تحقيق الأمن بعد عامين من حرب انتهت بوقف إطلاق النار الذي فرضته المقاومة الفلسطينية بشروطها لا الحكومة كما كان مأمولًا

واشنطن بدورها احتفت بالاتفاق على طريقتها الخاصة واعتبرته إنجازًا دبلوماسياً يضاف إلى رصيدها الانتخابي حيث ظهر إلى جانب ويتكوف جاريد كوشنر ( صهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ومستشاره المقرب ) وهما يؤكدان أن الصفقة تمت بجهود وساطة مشتركة من ( قطر ومصر وتركيا ) وأن ما جرى في غزة يفتح الباب لسلام ممكن في المنطقة لكن المراقبين رأوا في الزيارة المفاجئة لاثنين من أبرز رموز الدبلوماسية الأمريكية المحافظة محاولة لإعادة تلميع صورة واشنطن بعد حربٍ فشلت إسرائيل في حسمها وأجبرت حليفتها الكبرى على التدخل لإنقاذها من مأزق عسكري وسياسي متفاقم

الحقيقة لم يكن حضور ويتكوف وكوشنر مجرد  فعل رمزي بل امتد إلى قطاع غزة حيث تابع انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي وفقًا لاتفاق الخط الأصفر الذي رسمه ترامب برفقة قائد القيادة المركزية الأمريكية الأدميرال برادلي كوبر ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي ايال زامير في مشهد يكشف العمق الميداني للانحياز الأمريكي لإسرائيل ويجعل واشنطن المشرف المباشر على مرحلة ما بعد الحرب فيما تراجع الدور الإسرائيلي إلى مستوى منفذ لتوجيهات الحلفاء الأمريكيين والوسطاء الإقليميين

كما ان زيارة ويتكوف لم تكن بروتوكول دبلوماسي بل تمثيل مباشر للسيطرة الأمريكية على الأرض الفلسطينية بعد انسحاب الاحتلال حيث تم التحقق من تنفيذ الجيش الإسرائيلي لبنود الاتفاق مع فرض إشراف كامل على عملية تبادل الأسرى والمراحل الإنسانية المرتبطة بالهدنة ما يعني أن واشنطن لم تعد وسيطًا محايدًا بل طرفًا اساسيا يحدد تفاصيل السياسة والميدان معًا لصالح ومصالح الاحتلال

خلف هذه اللغة الدبلوماسية الرسمية تكمن الحقائق الميدانية الدامية للحرب التي استمرت عامين أوقعت أكثر من سبعة وستين ألف شهيد ومئة وسبعين ألف جريح بينهم آلاف الأطفال وقد دفعت آلاف الفلسطينيين للموت جوعًا بسبب الحصار الخانق ورغم كل ذلك خرجت غزة من تحت الركام أكثر صلابة وقدرة على الفرض السياسي والعسكري لتؤكد أن ما جرى لم يكن سلامًا تمليه القوة بل هدنة فُرضت على المحتل تحت وطأة الصمود الشعبي والإرادة التي لم تنكسر

مقابل ذلك تزايدت الدعوات في الداخل الإسرائيلي إلى تشكيل لجنة تحقيق في إخفاقات الحرب وسط انقسامات داخل الائتلاف الحاكم وتراجع غير مسبوق في شعبية نتنياهو الذي بات يوصف بأنه عبء على الدولة فيما يرى محللون فلسطينيون أن صيحات الاستهجان في قلب تل أبيب لم تكن مجرد تعبير عن غضب داخلي بل إعلان رمزي عن سقوط هيبة الاحتلال وانتصار الرواية الفلسطينية التي أثبتت أن المقاومة قادرة على إسقاط صورة الزعيم الذي خاض كل الحروب ليبقى في السلطة فإذا به يسقط في ميدان صنعته غزة بإرادتها ونسجت واشنطن خيوطه الدبلوماسية تحت ضغط الواقع الفلسطيني الجديد

اما على الصعيد الإقليمي تسعى واشنطن إلى استثمار ما تسميه نجاح الوساطة لترميم صورتها في الشرق الأوسط غير أن موازين الواقع لم تعد في صالحها كما كانت فالمقاومة باتت رقمًا صعبًا في معادلة المنطقة وأي حديثٍ عن سلامٍ أو استقرار لن ينجح دون حضورها في الطاولة السياسية لقد أصبحت غزة محورًا للتوازنات الجديدة ومركز ثقلٍ يعيد رسم خريطة النفوذ بين العواصم

في الوقت نفسه لم يكن الحال في غزة خالياً من المأساة الإنسانية الكبيرة حيث عاد آلاف النازحين لرؤية ما تبقى من منازلهم المدمرة وسط أنقاض المدينة التي باتت بلا ملامح في حين استمرت مخاطر الألغام والمخلفات الحربية ما جعل الهدنة أكثر هشاشة من أي نهاية رسمية للحرب

لفهم التحليل السياسي بشمولية اكثر يمكن القول ان التدخل الأمريكي المباشر في متابعة انسحاب قوات الاحتلال والتحكم بمراحل تنفيذ الاتفاق يعكس تحولًا استراتيجيًا مهمًا يظهر ان واشنطن لم تعد مجرد وسيط بل أصبحت مرجعًا أول في رسم خرائط المرحلة التالية بما في ذلك ملف إعادة الإعمار والمفاوضات مع السلطة الفلسطينية والدول العربية وهو ما يضع إسرائيل تحت إشراف دائم ويقلص من قدرتها على التحكم بمصير قطاع غزة في المستقبل

اللافت أنه خلال الفعالية نفسها ظهر جاريد كوشنر إلى جانب ويتكوف في مشهدٍ حاولت واشنطن من خلاله إبراز ما تعتبره إنجازًا دبلوماسيًا جديدًا غير أن توقيت الزيارة إلى تل أبيب واحتفاء المسؤولين الأمريكيين بالاتفاق وسط غضب الشارع الإسرائيلي كشف تناقض الصورة فبينما يتحدث الأمريكيون عن نجاحٍ سياسي كان الإسرائيليون يرون في الاتفاق اعترافًا بالهزيمة وإقرارًا بسقوط رغم محاولتهما رسم نموذجًا جديدًا للوساطة الأمريكية والدور الذي لم يعد دبلوماسيًا فقط بل يشمل إشرافًا عسكريًا وسياسيًا مباشرًا على الأرض ما يجعل الولايات المتحدة الطرف الفاعل الأول في تحديد زمن ووتيرة الأحداث وتحويل عملية السلام من مسار تفاوضي مستقل إلى خطة أمريكية خالصة تحت عنوان حفظ مصالح إسرائيل اولا

بعض المحللون والمراقبون يرون أن تطور الاحداث يمثل بداية متوقعة لإعادة صياغة موازين القوى في الشرق الأوسط بعدما اكدت  المقاومة الفلسطينية قدرتها على فرض قواعد اللعبة على الارض بينما إسرائيل فقدت سيطرتها المطلق واصبح سقوط نتنياهو سياسيًا واقعًا ملموسًا أمام الشعب الإسرائيل  كما جسدت واشنطن دور الحاكم الفعلي الذي يحدد متى وكيف تنتهي المعارك ومتى تبدأ المفاوضات ما يعيد من جديد تعريف مفهوم القوة في المنطقة ومن ملك السلاح  والإرادة والمقاومة السياسية والميدانية

هكذا تتبلور الصورة النهائية لمعركة طويلة حيث فرض الميدان لغزة شروطه بقوة الفعل والدبلوماسية لواشنطن التي سارعت لتثبيت التوازن وحفظ ماء وجه الحليف وسقوط نتنياهو الذي خسر الحرب والسياسة معًا لتبدأ مرحلة جديدة يعاد فيها رسم معادلة الشرق الأوسط على وقع الحقيقة التي حاول الجميع إنكارها طويلاً بأن القوة لم تعد حكراً على من يملك السلاح بل في يد من يستطيع الثبات والمقاومة وتعزيز الإرادة الشعبية والاهم أن الدور الأمريكي في المنطقة لم يعد وسيطًا نزيهًا بل طرفًا فاعلًا يتحكم في التطورات ويفرض تفاصيل السياسة والميدان بينما يواصل الفلسطينيون معركتهم للبقاء وسط ركام الحرب والواقع السياسي الجديد

ختاما : هكذا تتضح المعادلة بكل رموزها وان المنطقة على أعتاب مرحلة صعبة ومبهمة تتداخل فيها السياسة بالميدان تحت إشراف أمريكي مباشروان قرار الحرب لم يعد بيد تل أبيب بل انتقل عمليًا إلى واشنطن التي تشرف على ترتيبات الأمن والإعمار والمفاوضات كما فقدت قدرتها على التحكم في المسار السياسي والسقوط بات واضحا من نصيب نتنياهو الذي انتهت حقبته فعليًا في ميدان تل أبيب قبل أن تنتهي في صناديق الاقتراع وأن زمن القوة الإسرائيلية المنفردة قد ولّى وأن صوت المقاومة سيظل الرقم الأصعب في معادلة الشرق الأوسط الجديد

disqus comments here